لقاء

انتهت من إعداد حقائب السفر.. وها هي تتأهب للرحيل.. تجولت في أرجاء البيت، نظرت إليه بحزن قبل أن تودعه.. كان خالياً من الأثاث باستثناء بعض القطع الضرورية.. هي اليوم تودع مكاناً عانق سنوات حياتها مذ ولدت حتى بلغت عقدها الرابع.. لم يعد يربطها بالمكان أي شيء.. رحل والداها.. لا أشقاء لها.. تركها الأقرباء.. وانشغل عنها الأصدقاء، بقيت تقتات على فتافيت الذكريات فلم تعد تكفيها لتعيش.. لقد هوى الجدار الصلب الذي كانت تتكأ عليه مع رحيل والدها.. وحين رحلت والدتها اصبح البيت بارداّ.. واستفاق العمر الذي كان يختبئ في دفء صوتها وحنان يديها لتقرأ عداد العمر وتندهش أمام ما سجله من رقم لم تكن تلتفت له في السابق.. فالوحدة لها طعم مر يعكر حلاوة الأيام ويكدر صفاءها.. راجعت نفسها كثيراً حتى تأكد لها أنها اتخذت القرار المناسب، رن جرس الباب.. وصلت سيارة الأجرة التي ستقلّها الى المطار.. حملت الحقائب.. ثم ركبت السيارة.. في طريقها الى المطار.. كانت تتطلع الى شوارع المدينة كأنها تشفق على طفل يتيم يلاحقها لكنها لا تستطيع أن تقدم له شيئاً، وصلت المطار ثم أخذت دورها مع المسافرين حتى وصلت الى الموظف المسؤول عن إكمال إجراءات السفر.. سلّمها جوازها وقام بشحن حقائبها.. ما زال هناك وقت حتى موعد وصول الطائرة.. جلست على أحد الكراسي تنتظر.. صادف أن جلس رجل في المقعد المقابل لها.. شعرت أنه ينظر إليها كأنه يعرفها.. لم تبالي بشيء ومدت يدها الى حقيبة صغيرة كانت تحملها.. أخرجت من جيب الحقيبة مسبحة بيضاء اللون، ما زال الرجل يحدق بها وبدا لها انه هو أيضاً ينتظر موعد وصول طائرته.. أحست بارتباك.. سقطت المسبحة من يدها.. نهض الرجل بسرعة، التقط المسبحة من على الأرض وناولها إيّاها.. تشابكت النظرات ثم اتسعت عيناها وهي تنظر إليه، بادرها قائلاً:

ما زالت عيناك تشرق في وجهك كما يشرق الصباح على البساتين النائمة..

قالت: وما زالت عيناك كبحر هائج ليس له قرار..

قال: ما زال قلبك فياضاً بالحب.. مغلفاً بالتقوى

قالت: وما زال قلبك متمرداً صاخباً لا يرضى بشيء

قال: أراكِ تلبسين حجاباً.. هل عبث الشيب بليل شعركِ الأسود؟!

قالت: بل هو ستار أسدلته على شعري.. قبل أن يسدل العمر أستاره على أيامي..

قال: هل تزوجتِ؟

قالت: لا.. خفت أن يخذلني  رجلاً غيرك بعد أن خذلتني أنت

قال : هي الحياة التي خذلتني، وهو الفقر الذي بنى بيننا سوراً شاهقاً لم اقوَ على تسلقه

قالت: نحن من نرسم حياتنا بأيدينا، ونكتب أقدارنا بأعمالنا

قال: خفت أن تذبلي بين يدي وأنت وردة جورية تشتاق لها الفراشات.. وتراقصها موسيقى الريح

قالت: هل تزوجت؟

قال: لا.. فما زلت ابحث عن امرأة تشبهك..

قطع حوارهما صوت نداء للمسافرين يعلن عن رقم الرحلة ووصول الطائرة التي ستسافر عليها، ودعته بابتسامة وتمنت له الخير ثم سارت متجهة صوب المغادرة.. لم تكن تعلم انه مسافر معها على الطائرة نفسها.

 

زينب حسين الناهض

بغداد 2024


تعليقات

  1. جميل عاشت افكاركي المميزة ام دعاء
    احداث سريعة ومتسلسلة وهي جزء من واقع لم يعيشه الا القليل القليل
    ولكنه ممتع حتى لمن لم يعيشه
    فعلا
    وهو من السهولة ان يكون جزءا من احساس يتقمصه القاريء
    ...
    اعتقد ان هنالك جزء اخر
    فالقاء لم ينتهي بعد

    ردحذف
  2. التشويق سر النجاح الادبي وقد وفقت الكاتبة بنجاح مبهر سلمت افكارك الممتعه

    ردحذف
  3. مبدعه دائما ست زينب

    ردحذف
  4. قصة قصيرة جميلة وبها احداث وتشويق وجعلتيني اتوق لمعرفة النهاية عاشت يدك

    ردحذف
  5. هذه القصة مليئة بالمشاعر العميقة، وتحمل في طياتها الكثير من الألم والحنين. يظهر في النص كيف تأخذ الذكريات دورها في تشكيل حياة الشخص، وكيف يمكن للوحدة والفراغ أن يدفعا المرء لاتخاذ قرارات جذرية. اللقاء غير المتوقع مع شخص من الماضي، والمشاعر التي عادت فجأة، تضيف إلى القصة لمسة من الحنين والندم على ما كان وما لم يكن.

    النهاية المفتوحة تعطي القارئ فرصة للتفكير في احتمالات متعددة: هل سيتجدد اللقاء بينهما على متن الطائرة؟ هل ستتغير حياتهما مرة أخرى بسبب هذا اللقاء؟ أم أن كل منهما سيكمل طريقه منفرداً؟ النص يترك هذه الأسئلة مفتوحة، مما يعزز من قوة السرد ويجعل القارئ يتأمل في معنى اللقاءات والقرارات في الحياة.
    بوركت أناملك وروعة إبداعك ومزيداً من التألق
    د. عبدالوهاب

    ردحذف
    الردود
    1. سعيدة بتعليقكم دكتور..ممتنة جدا

      حذف
  6. عاشت الأنامل الرقيقة 🥰
    دامت حروفك🤍

    ردحذف
  7. قصه جميله مشوقه بقرائتها عاشت افكارك الحلوه وأناملك انشاء الله المزيد

    ردحذف
  8. ست زينب العزيزة دام حرفك تمنياتي بالتوفيق والاستمرار

    ردحذف
  9. ابدعتي ياست زينب المبدعة 🌹🌹

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

"ورق الورد" قصة قصيرة بقلم زينب حسين الناهض